إن التطور التقني السريع الذي يشهده العالم يفتح آمالاً عريضة في صناعة المستقبل الرقمي انطلاقاً من الواقع المعاصر فقد أصبح للتكنولوجيا الحديثة ظهوراً بالغ الأثر في شتى مجالات الحياة البشرية، وتغطية كافة المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية، وأسهم استخدامها في تسهيل حياة الأفراد بشكل كبير لما تحمله من مزايا عديدة كإمكانية الوصول السريع، وسهولة الاستخدام، وتعدد الأغراض، وتيسير التواصل بين الأفراد والمجتمعات، وفي قبال ذلك تتعدد المخاطر والتحديات التي تحملها هذه التكنولوجيا لا سيما تلك المرتبطة بالجانب الصحي والعقلي والنفسي مما يجعل من دراسة وتحليل سلبيات وإيجابيات هذا التطور التقني أمراً بالغ الأهمية، إذ يقوم الباحثون والدارسون بالوقوف على ما تجلبه هذه التكنولوجيا من منافع، وما تأتي به من أضرار بهدف تسهيل وصول جميع الأفراد والمجتمعات إلى حياة رقمية متكاملة وآمنة وتحقيق الازدهار وجودة الحياة التي تنشدها الدول حين ينعم الكل بالاستخدام الأمثل والقويم للتكنولوجيا.
لو أردنا أن نسلط الضوء على الحلول الرقمية التي يستخدمها غالبية الناس بشكل يومي ومتكرر لوجدنا في طليعة ذلك العديد من التطبيقات والأدوات المبتكرة في مجال الصحة والتعليم والاتصالات والنقل، وتمثل تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي أكثر النماذج شيوعاً وتنوعاً في استخداماتها بين الناس على مختلف فئاتهم العمرية وخلفياتهم الثقافية، وتتفاوت الأغراض التي اكتسبت بها هذه التطبيقات شهرتها وذيوع صيتها، فهي أداة يومية للتواصل مع أفراد الأسرة والأصدقاء، ومشاركة المحتوى في صورة نص أو صورة أو فيديو، ونشر المعلومات والأفكار، وتبادل المعلومات بحيث أصبح من الصعب الاستغناء عنها، وفي ضوء هذا الانتشار فمن المهم تقنين استخدامها للأطفال والشباب لما قد تسببه من تأثيرات سلبية، مثل تقليص الوقت الذي يمكن أن يقضيه المستخدم مع العائلة والأصدقاء وبالتالي تقليص فرص التعلق بهم، والتفاعل معهم تفاعلاً مباشراً مما قد يثبط من المهارات الاجتماعية والسلوكية لدى المستخدم. إضافة لذلك توجد احتمالات تكوين علاقات غير مرغوبة، وتقلبات نفسية منشؤها اختلاف طبيعة التفاعل مع فئات كبيرة من الناس، وكذلك المشاكل الصحية المرتبطة بإدمان الاستخدام مثل مشاكل الظهر وإجهاد العينين، وقلة النشاط البدني.
ونظراً لما للاتصال الرقمي من دور كبير في توسيع صداقات الأفراد مع العالم أجمع فقد أصبح من الصعب إبقاء العلاقات الأسرية قوية ومتماسكة لأنها قد تصبح مهددة بالفتور حين لا تحقق الإشباع الذي يتطلع إليه الشباب من جراء علاقاتهم الافتراضية في العالم الرقمي، إذ يميل الشباب عادة إلى توثيق وتدعيم العلاقات التي تجلب لهم إشباعاً معيناً قد يتحقق ضمن حدود الأسرة وقد يتحقق خارجها.
وحتى يمكن لأرباب الأسر التعايش مع هذا التحول الرقمي بفاعلية وتفاعل عليهم أن يتبنوا استراتيجيات معينة في كل منزل وفي كل تعامل يتعامل به أبنائهم في سائر جوانب حياتهم العلمية والمهنية وفي أساليب معيشتهم، فلو ترك الأمر من غير توجيه وإرشاد ووضع قوانين لربما فقد الأبناء اهتمامهم بالعالم الواقعي تماماً وفي ذلك نماذج كثيرة لأفراد يعيشون في منزل واحد وقد لا يلفتون إلى ما قد يعتور بعضهم من وعكة صحية أو مشاكل نفسية أو أزمة مادية لشدة انجذابهم للعالم الرقمي وانغماسهم فيه.
لا ينبغي أن تُهمَل العلاقات الأسرية بسبب الانخراط العميق في التكنولوجيا بل تُسخَّر التكنولوجيا لتحقيق الاستفادة القصوى منها في زيادة ترابط الأسرة ومعرفة أحوالها، ومناسباتها، ومشاركتها أفراحها وأحزانها، وبينما يقوم المستخدم ببناء شبكة تواصل مع أشخاص آخرين يختارهم بنفسه غالباً ثم يقوم بتقوية هذه الشبكة وحذف وإضافة الأشخاص وفقاً لميوله ورغباته فإن شبكته الحقيقية أصيلة وباقية وإنما تحتاج إلى الالتفات والرعاية وفي ذلك امتثال لأوامر الله عز وجل فضلاً عما تجلبه من منافع دنيوية وأخروية.
وبالمثل على الجهات التعليمية أن يبدأوا بتعليم مهارات الاتصال الرقمي للطلاب منذ الصغر، وشرح أخلاقيات التواصل الرقمي ونشر ثقافة التعامل الحضاري مع التكنولوجيا المتطورة، وتهذيب السلوك الناشئ عن فرط الاستخدام من أجل إعداد جيل واعي ومدرك لمخاطر ومنافع التكنولوجيا.
ختاماً فإن جميع المواطنين صغاراً وكباراً يحتاجون إلى التقنية من أجل الرقي بالمجتمعات وزيادة فرص نجاحها في كافة جوانب الحياة، فهي كيان ثابت لا يمكن الاستغناء عنه، والحاجة ماسة لمضاعفة الجهود من قبل جميع المهتمين والمستخدمين في سبيل نشر وعي رقمي يجذب مصالح التكنولوجيا ويدرأ مفاسدها.