تُعَرَّفُ الأسرة المعيشية بأنها فرد أو مجموعة من الأفراد تربطهم أو لا تربطهم صلة قربى، ويشتركون في المأكل والملبس ويدخل من ضمنها المقيمون والمسافرون من المواطنين وكذلك العمالة المنزلية الذين يقيمون مع الأسرة في ذات المسكن، وقد كانت الأسرة الممتدة – أي المكونة من الأجداد وربما الأخوال أو الأعمام إضافة للزوجين والأبناء- نموذجاً سائداً للأسرة المعيشية على مر العصور، فهم يعيشون جميعهم تحت سقف واحد ويتشاركون الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويخضعون لقوانين رب الأسرة وأنماط المعيشة للأسرة الأم.
وعلى الرغم من المزايا التي يحظى بها الأبناء في حال عيشهم مع أسرتهم الأصلية مثل توفير عناء البحث عن سكن مستقل، والتعاون الحاصل بين أفراد الأسرة في إدارة شؤونها وتلبية احتياجاتها المعيشية إلا أن هذا الخيار أصبح غير محبذ من قبل العديد من الأبناء في الآونة الأخيرة لا سيما بعد إنجاب الأطفال لكثرة التَّبِعَات والقيود المترتبة على العيش ضمن العديد من الأفراد في منزل واحد، وأذكر هنا بعضاً مما تكرر على مسامعي بكثرة من قبل بعض الأهل والأقارب والأصدقاء الذين يعيشون ضمن أسر ممتدة، وكيفية تأثير هذه المعيشة على استقرارهم وعلاقاتهم الأسرية.
من أكثر المشاكل شيوعاً هو محدودية الخصوصية والاستقلالية التي يرغب الزوجين في تحقيقها، لا سيما مع عدم وجود مدخل مستقل ومنفصل تماماً للأبناء، إذ تصبح جميع تحركات الأسرة على مرأى ومسمع من الجميع، مما قد يسبب في حدوث بعض المقارنات فيما يقدمه كل رب أسرة فرعية لأسرته، وتصبح هذه المشكلة أكثر تعقيداً مع ازدياد عدد أفراد الأسرة، وتفاوت الدخل المادي، واختلاف المستوى التعليمي والثقافي للآباء والأمهات وطبيعة العلاقة بينهم، ومستوى المودة والرحمة الذي يظلل العائلة والذي ينعكس على قوة الترابط الأسري فيها، وكلما تعددت العوامل والمتغيرات كلما ازدادت مسؤولية الأبوين في التربية القويمة وفي توجيه وإرشاد أبنائهم وسن قوانين وأحكام خاصة بالعائلة فعلى سبيل المثال يواجه الوالدين مشقة في التحكم في النمط الغذائي والصحي وأوقات النوم والدراسة واللعب للأبناء لا سيما مع كون بعض من يعيشون معهم في سِنٍ مقارب.
أضف إلى ذلك المشاكل المرتبطة بصراع الأجيال وهو كما يعرفه علماء التربية والاجتماع وعلم النفس بأنه الاختلاف في الرؤى بين الجيلين: جيل الشباب وجيل الكبار واضطراب العلاقة بين الآباء والأبناء وتأزمها، حيث يتطلع الأبناء إلى مواكبة تطورات العصر ثقافياً واجتماعياً، بينما يتمسك الآباء بالقيم والعادات والتقاليد ويحبذون أن يكون أبنائهم كذلك، مما يولد حالة من الخلاف الدائم بين الطرفين، ويتجلى هذا الخلاف حين يبلغ الأبناء سن الزواج ويكونون أسراً نووية مستقلة وتصبح لديهم رغبة في تغيير أنماط المعيشة وأساليب التربية وإدارة شؤون النفقة، كما أن الزوجة لا ترغب غالباً في الخضوع لقوانين رب الأسرة الممتدة فلم يعد دور المرأة مقتصراً على تربية الأبناء والقيام بشؤون المنزل، بل أصبحت مُسَاهِمة في تنمية الوضع المعيشي خاصةً مع ما تبذله المملكة من جهود في سبيل تمكين دور المرأة في دفع عجلة النمو الاقتصادي للدولة، ولا تقضي المرأة الآن جُلَّ وقتها في المنزل مما يجعل دورها في الأسرة الممتدة مختلفاً عما كان عليه في الزمن القديم.
ومن جملة المشاكل أيضاً هو اختلاف نمط تربية الأبناء بين الأسر النووية المُكَوِّنة للأسرة المعيشية لا سيما مع تراجع زواج الأقارب، ولجوء العديد من الأبناء إلى اختيار زوجاتهم بأنفسهم خاصة مع الاحتكاك بين الجنسين في مقرات العمل مما يجعل عدم التوافق بين الزوجات المنحدرات من أسر مختلفة أمراً محتملاً لاختلاف البيئة والعادات، وبالتالي فإن كل أم ترغب في تربية أبنائها بأسلوب معين، وتُعَزِّز فيهم قيماً معينة قد لا تتناسب مع من تعيش معهم، وذلك يُولِّد توترات متعاقبة داخل الأسرة قد تهدد الحياة الزوجية.
وبصرف النظر عن جميع هذه المشاكل فإن الاستقلالية في المسكن لها مزايا أخرى إذ يفضل الشباب عادةً السكن في المدن الحضارية ذات الطابع العمراني الحديث والتي تتوفر فيها وسائل الراحة والترفيه لهم ولأبنائهم وتصبح هذه الميزة أكثر أهمية مع القرب الجغرافي للسكن المستقل من مقرات أعمالهم، لا سيما إن كانت طبيعة العمل شاقة وساعاته طويلة، فيكون خيار الاستقلالية حينئذٍ مُسَاهِماً بشكل كبير في إشباع حاجات الفرد النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
ومع كل ذلك لا شك بأن هنالك أسر معيشية تعيش باستقرار وهدوء ومحبة، فالأمر خاضع بالدرجة الأولى لمستوى ثقافة الأفراد وتقبلهم للآخر وكيفية تعاملهم وتعايشهم مع بعضهم حتى مع صعوبة الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأسرة، فالإنسان لا يستطيع حتماً تغيير البيئة والظروف المحيطة به ولكن بإمكانه تغيير طريقة قراءته لهذه الظروف وتفاعله معها، وعلى الآباء والأمهات بذل أقصى الجهود في سبيل التعايش والتكيف مع ما يحمله العيش ضمن الأسر الممتدة من تحديات وصعوبات لئلا يهتز استقرار الأسرة ولا تصاب روابطها بالوهن، فإن من سعادة المرء أن تكون له أسرة يستند إليها، ويأنس بقربها.